الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
وأنشده الفراء قصوره، ذكره ابن السكيت.وروى أنس قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مررت ليلة أسري بي في الجنة بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه السلام عليك يا رسول الله فقلت: يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء جوار من الحور العين استأذن ربهن في أن يسلمن عليك فأذن لهن فقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا أزواج رجال كرام» ثم قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ} أي محبوسات حبس صيانة وتكرمة. وروي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله! إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم إذا أحسنتن تبعل أزواجكن وطلبتن مرضاتهم». قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} أي لم يمسسهن على ما تقدم قبل. وقراءة العامة {يطمثهن} بكسر الميم. وقرأ أبو حيوة الشامي وطلحة بن مصرف والأعرج والشيرازي عن الكسائي بضم الميم في الحرفين. وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى ويخير في ذلك، فإذا رفع الأولى كسر الثانية وإذا كسر الأولى رفع الثانية. وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال أبو إسحاق: كنت أصلي خلف أصحاب علي فيرفعون الميم، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فيكسرونها، فاستعمل الكسائي الأثرين. وهما لغتان طمث وطمث مثل يعرشون ويعكفون، فمن ضم فللجمع بين اللغتين، ومن كسر فلأنها اللغة السائرة. وإنما أعاد قوله: {لم يطمثهن} ليبين أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة الحور القاصرات الطرف. يقول: إذا قصرن كانت لهن الخيام في تلك الحال.
وهذه أقوال متقاربة.وفي الصحاح: والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة رفرفة.وقال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا: الرفرف رياض الجنة، واشتقاق الرفرف من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء. وربما سموا الظليم رفرافا بذلك، لأنه يرفرف بجناحيه ثم يعدو. ورفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. والرفرف أيضا كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها، الواحدة رفرفة.وفي الخبر في وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة تخشخش أي رفع طرف الفسطاط.وقيل: اصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضا نضيرا، حكاه الثعلبي.وقال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى كاد يهتز: رف يرف رفيفا، حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذذ به مع أنيسته، قاله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وقد ذكرناه في التذكرة. قال الترمذي: فالرفرف أعظم خطرا من الفرش فذكره في الأوليين {مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وقال هنا: {مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فالرفرف هو شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به، أي طار به هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح، وأصله من رفرف بين يدي الله عز وجل، روي لنا في حديث المعراج أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى مسند العرش، فذكر أنه قال: «طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي بين يدي ربي» ثم لما حان الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين الدانيتين هو متكأهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان. ثم قال: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ} فالعبقري ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر!. وقرأ عثمان رضي الله عنه والجحدري والحسن وغيرهم {متكئين على رفارف} بالجمع غير مصروف كذلك {وعباقرى حسان} جمع رفرف وعبقري. و{رَفْرَفٍ} اسم للجمع و{عَبْقَرِيٍّ} واحد يدل على الجمع المنسوب إلى عبقر. وقد قيل: إن واحد رفرف وعبقري رفرفة وعبقرية، والرفارف والعباقر جمع الجمع. والعبقري الطنافس الثخان منها، قاله الفراء.وقيل: الزرابي، عن ابن عباس وغيره. الحسن: هي البسط. مجاهد: الديباج. القتبي: كل ثوب وشئ عند العرب عبقري. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي فينسب إليها كل وشي حبك. قال ذو الرمة: ويقال: عبقر قرية بناحية اليمن تنسج فيها بسط منقوشة.وقال ابن الأنباري: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل.وقال الخليل: كل جليل نافس فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمر رضي الله عنه: «فلم أر عبقريا من الناس يفري فرية» وقال أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فلم أر عبقريا يفري فرية» فقال: رئيس قوم وجليلهم.وقال زهير: وقال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد: ثم نسبوا إليه كل شيء يعجبون من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا: عبقري وهو واحد وجمع.وفي الحديث: «إنه كان يسجد على عبقري» وهو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش حتى قالوا: ظلم عبقري وهذا عبقري قوم للرجل القوي.وفي الحديث: «فلم أر عبقريا يفري فرية» ثم خاطبهم الله بما تعارفوه فقال: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ} وقرأه بعضهم: {عباقري} وهو خطأ لان المنسوب لا يجمع على نسبته، وقال قطرب: ليس بمنسوب وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي.وروى أبو بكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ {متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان} ذكره الثعلبي. وضم الضاد من {خضر} قليل. قوله تعالى: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} {تَبارَكَ} تفاعل من البركة وقد تقدم. {ذِي الْجَلالِ} أي العظمة. وقد تقدم {وَالْإِكْرامِ}. وقرأ عامر {ذو الجلال} بالواو وجعله وصفا للاسم، وذلك تقوية لكون الاسم هو المسمى. الباقون {ذِي الْجَلالِ} جعلوا {ذِي} صفة ل {رَبِّكَ}. وكأنه يريد الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: {الرَّحْمنُ} فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفه النار ثم ختمها بصفة الجنان. ثم قال في آخر السورة: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ}أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه ثم قال: {ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} جليل في ذاته، كريم في أفعاله. ولم يختلف القراء في إجراء النعت على الوجه بالرفع في أول السورة، وهو يدل على أن المراد به وجه الله الذي يلقى المؤمنون عند ما ينظرون إليه، فيستبشرون بحسن الجزاء، وجميل اللقاء، وحسن العطاء. والله أعلم.
وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة، أو نفس كاذبة، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق.وقال الزجاج: {لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ} أي لا يردها شي. ونحوه قول الحسن وقتادة.وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها.وقال الكسائي أيضا: ليس لها تكذيب، أي ينبغي ألا يكذب بها أحد.وقيل: إن قيامها جد لا هزل فيه. قوله تعالى: {خافِضَةٌ رافِعَةٌ} قال عكرمة ومقاتل والسدي: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت من نأى، يعني أسمعت القريب والبعيد.وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت أقواما إلى طاعة الله.وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة.وقال محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين.وقال ابن عطاء: خفضت أقواما بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل. والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل، يقولون: ليل نائم ونهار صائم.وفي التنزيل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي {خافِضَةٌ رافِعَةٌ} بالنصب. الباقون بالرفع على إضمار مبتدإ، ومن نصب فعلى الحال. وهو عند الفراء على إضمار فعل، والمعنى: إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة- وقعت: خافضة رافعة. والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقواما وتضع آخرين على ما بيناه. قوله تعالى: {إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} أي زلزلت وحركت عن مجاهد وغيره، يقال: رجة يرجه رجا أي حركه وزلزلة. وناقة رجاء أي عظيمة السنام.وفي ب الحديث: «من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له» يعني إذا اضطربت أمواجه. قال الكلبي: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها اضطربت فرقا من الله تعالى. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها. وعن ابن عباس الرجة الحركة الشديدة يسمع لها صوت. وموضع {إِذا} نصب على البدل من {إِذا وَقَعَتِ}. ويجوز أن ينتصب ب {خافِضَةٌ رافِعَةٌ} أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لان عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض.وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجت الأرض، قاله الزجاج والجرجاني.وقيل: أي اذكر {إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} مصدر وهو دليل على تكرير الزلزلة قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا} أي فتتت، عن ابن عباس. مجاهد: كما يبس الدقيق أي يلت. والبسيسة السويق أو الدقيق يلت بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادا. قال الراجز: وذكر أبو عبيدة: أنه لص من غطفان أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن ذلك فأكله عجينا. والمعنى أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت بشيء من الماء. أي تصير الجبال ترابا فيختلط البعض بالبعض.وقال الحسن: وبست قلعت من أصلها فذهبت، نظيره: {يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً}.وقال عطية: بسطت كالرمل والتراب.وقيل: البس السوق أي سيقت الجبال. قال أبو زيد: البس السوق، وقد بسست الإبل أبسها بالضم بسا.وقال أبو عبيد: بسست الإبل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بس بس.وفي الحديث: «يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» ومنه الحديث الآخر: «جاءكم أهل اليمن يبسون عيالهم» والعرب تقول: جئ به من حسك وبسك. ورواهما أبو زيد بالكسر، فمعنى من حسك من حيث أحسسته، وبسك من حيث بلغه مسيرك.وقال مجاهد: سألت سيلا. عكرمة: هدت هدا. محمد بن كعب: سيرت سيرا، ومنه قول الأغلب العجلي: وقال الحسن: قطعت قطعا. والمعنى متقارب. قوله تعالى: {فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} قال علي رضي الله عنه: الهباء المنبث الرهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك.وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار. وروي نحوه عن ابن عباس. وعنه أيضا: هو ما تطاير من النار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئا.وقال عطية. وقد مضى في الفرقان عند قوله تعالى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} وقراءة العامة {مُنْبَثًّا} بالثاء المثلثة أي متفرقا من قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي فرق ونشر. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة {منبتا} بالتاء المثناة أي منقطعا من قولهم: بته الله أي قطعه، ومنه البتات.
|